فصل: من فوائد الجصاص في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} أنهما صدقا، وما غيرا ولا بدلا هذا {إِنِ ارْتَبْتُمْ} في شهادتهما، فإن صدقتموهما، فلا حاجة إلى القسم بذلك.
ويقولان: {لا نَشْتَرِي بِهِ} أي: بأيماننا {ثَمَنًا} بأن نكذب فيها، لأجل عرض من الدنيا. {وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} فلا نراعيه لأجل قربه منا {وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ} بل نؤديها على ما سمعناها {إِنَّا إِذًا} أي: إن كتمناها {لَمِنَ الآثِمِينَ}.
{فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا} أي: الشاهدين {اسْتَحَقَّا إِثْمًا} بأن وجد من القرائن ما يدل على كذبهما وأنهما خانا {فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان}.
أي: فليقم رجلان من أولياء الميت، وليكونا من أقرب الأولياء إليه. {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} أي: أنهما كذبا، وغيرا وخانا. {وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} أي: إن ظلمنا واعتدينا، وشهدنا بغير الحق.
قال الله تعالى في بيان حكمة تلك الشهادة وتأكيدها، وردها على أولياء الميت حين تظهر من الشاهدين الخيانة: {ذَلِكَ أَدْنَى} أي: أقرب {أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا} حين تؤكد عليهما تلك التأكيدات. {أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} أي: أن لا تقبل أيمانهم، ثم ترد على أولياء الميت.
{وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} أي: الذين وصْفُهم الفسق، فلا يريدون الهدى والقصد إلى الصراط المستقيم.
وحاصل هذا، أن الميت- إذا حضره الموت في سفر ونحوه، مما هو مظنة قلة الشهود المعتبرين- أنه ينبغي أن يوصي شاهدين مسلمين عدلين.
فإن لم يجد إلا شاهدين كافرين، جاز أن يوصي إليهما، ولكن لأجل كفرهما فإن الأولياء إذا ارتابوا بهما فإنهم يحلفونهما بعد الصلاة، أنهما ما خانا، ولا كذبا، ولا غيرا، ولا بدلا فيبرآن بذلك من حق يتوجه إليهما.
فإن لم يصدقوهما ووجدوا قرينة تدل على كذب الشاهدين، فإن شاء أولياء الميت، فليقم منهم اثنان، فيقسمان بالله: لشهادتهما أحق من شهادة الشاهدين الأولين، وأنهما خانا وكذبا، فيستحقون منهما ما يدعون.
وهذه الآيات الكريمة نزلت في قصة «تميم الداري» و«عدي بن بداء» المشهورة حين أوصى لهما العدوي، والله أعلم.
ويستدل بالآيات الكريمات على عدة أحكام:
منها: أن الوصية مشروعة، وأنه ينبغي لمن حضره الموت أن يوصي.
ومنها: أنها معتبرة، ولو كان الإنسان وصل إلى مقدمات الموت وعلاماته، ما دام عقله ثابتا.
ومنها: أن شهادة الوصية لابد فيها من اثنين عدلين.
ومنها: أن شهادة الكافرين في هذه الوصية ونحوها مقبولة لوجود الضرورة، وهذا مذهب الإمام أحمد. وزعم كثير من أهل العلم: أن هذا الحكم منسوخ، وهذه دعوى لا دليل عليها.
ومنها: أنه ربما استفيد من تلميح الحكم ومعناه، أن شهادة الكفار- عند عدم غيرهم، حتى في غير هذه المسألة- مقبولة، كما ذهب إلى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية.
ومنها: جواز سفر المسلم مع الكافر إذا لم يكن محذور.
ومنها: جواز السفر للتجارة.
ومنها: أن الشاهدين- إذا ارتيب منهما، ولم تبد قرينة تدل على خيانتهما، وأراد الأولياء- أن يؤكدوا عليهم اليمين، ويحبسوهما من بعد الصلاة، فيقسمان بصفة ما ذكر الله تعالى.
ومنها: أنه إذا لم تحصل تهمة ولا ريب لم يكن حاجة إلى حبسهما، وتأكيد اليمين عليهما.
ومنها: تعظيم أمر الشهادة حيث أضافها تعالى إلى نفسه، وأنه يجب الاعتناء بها والقيام بها بالقسط.
ومنها: أنه يجوز امتحان الشاهدين عند الريبة منهما، وتفريقهما لينظر عن شهادتهما.
ومنها: أنه إذا وجدت القرائن الدالة على كذب الوصيين في هذه المسألة- قام اثنان من أولياء الميت فأقسما بالله: أن أيماننا أصدق من أيمانهما، ولقد خانا وكذبا.
ثم يدفع إليهما ما ادعياه، فتكون القرينة- مع أيمانهما- قائمة مقام البينة. اهـ.

.من فوائد سيد قطب في الآيات السابقة:

قال رحمه الله:
والآن يجيء الحكم الأخير من الأحكام الشرعية التي تتضمنها السورة، في بيان بعض أحكام المعاملات في المجتمع المسلم، وهو الخاص بتشريع الإشهاد على الوصية في حالة الضرب في الأرض، والبعد عن المجتمع. والضمانات التي تقيمها الشريعة ليصل الحق إلى أهله.
{يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنًا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذن لمن الآثمين. فإن عثر على أنهما استحقا إثمًا فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذن لمن الظالمين. ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم واتقوا الله واسمعوا والله لا يهدي القوم الفاسقين}.
وبيان هذا الحكم الذي تضمنته الآيات الثلاث: أن على من يحس بدنو أجله، ويريد أن يوصي لأهله بما يحضره من المال، أن يستحضر شاهدين عدلين من المسلمين إن كان في الحضر، ويسلمهما ما يريد أن يسلمه لأهله غير الحاضرين. فأما إذا كان ضاربًا في الأرض، ولم يجد مسلمين يشهدهما ويسلمهما ما معه، فيجوز أن يكون الشاهدان من غير المسلمين.
فإن ارتاب المسلمون- أو ارتاب أهل الميت- في صدق ما يبلغه الشاهدان وفي أمانتهما في أداء ما استحفظا عليه، فإنهم يوقفونهما بعد أدائهما للصلاة- حسب عقيدتهما- ليحلفا بالله، أنهما لا يتوخيان بالحلف مصلحة لهما ولا لأحد آخر، ولو كان ذا قربى، ولا يكتمان شيئًا مما استحفظا عليه.. وإلا كانا من الآثمين.. وبذلك تنفذ شهادتهما.
فإذا ظهر بعد ذلك أنهما ارتكبا إثم الشهادة الكاذبة واليمين الكاذبة والخيانة للأمانة. قام أولى اثنين من أهل الميت بوراثته، من الذين وقع عليهم هذا الإثم، بالحلف بالله أن شهادتهما أحق من شهادة الشاهدين الأولين. وأنهما لم يعتديا بتقريرهما هذه الحقيقة. وبذلك تبطل شهادة الأولين، وتنفذ الشهادة الثانية.
ثم يقول النص: إن هذه الإجراءات أضمن في أداء الشهادة بالحق؛ أو الخوف من رد أيمان الشاهدين الأولين، مما يحملهما على تحري الحق.
{ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم}.
وينتهي إلى دعوة الجميع إلى تقوى الله، ومراقبته وخشيته، والطاعة لأوامره، لأن الله لا يهدي من يفسقون عن طريقه، إلى خير ولا إلى هدى: {واتقوا الله واسمعوا. والله لا يهدي القوم الفاسقين}.
قال القرطبي في تفسيره عن سبب نزول هذه الآيات الثلاث:
ولا أعلم خلافًا أن هذه الآيات الثلاث نزلت بسبب تميم الداري، وعدي بن بدّاء روي البخاري والدارقُطني وغيرهما عن ابن عباس قال: كان تميم الداري وعدي بن بداء، يختلفان إلى مكة؛ فخرج معهما فتى من بني سهم، فتوفي بأرض ليس بها مسلم، فأوصى إليهما، فدفعا تركته إلى أهله، وحبسا جامًا من فضة مخوصًا بالذهب. فاستحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما كتمتما ولا اطلعتما». ثم وجد الجام بمكة. فقالوا: اشتريناه من عدي وتميم. فجاء رجلان من ورثة السهمي فحلفا أن هذا الجام للسهمي، ولشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا. قال فأخذ الجام. وفيهم نزلت هذه الآية. لفظ الدارقطني.
وواضح أن لطبيعة المجتمع الذي نزلت هذه الأحكام لتنظيمه دخلا في شكل الإجراءات.
وربما في طبيعة هذه الإجراءات. فالإشهاد والائتمان على هذا النحو. ثم الحلف بالله في مجتمع بعد الصلاة. لاستجاشة الوجدان الديني، والتحرج كذلك من الفضيحة في المجتمع عند ظهور الكذب والخيانة.. كلها تشي بسمات مجتمع خاص. تفي بحاجاته وملابساته هذه الإجراءات.
ولقد تملك المجتمعات اليوم وسائل أخرى للإثبات، وأشكالًا أخرى من الإجراءات، كالكتابة والتسجيل والإيداع في المصارف.. وما إليها..
ولكن. أو فَقدَ هذا النص قدرته على العمل في المجتمعات البشرية؟
إننا كثيرًا ما نخدع ببيئة معينة، فنظن أن بعض التشريعات وبعض الإجراءات قد فقدت فاعليتها، ولم تعد لها ضرورة، وأنها من مخلفات مجتمعات مضى زمنها! لأن البشرية استجدّت وسائل أخرى!
أجل كثيرًا ما نخدع فننسى أن هذا الدين جاء للبشرية جميعًا، في كل أقطارها، وفي كل أعصارها. وأن كثرة ضخمة من هذه البشرية اليوم ما تزال بدائية أو متدرجة من البداوة. وأنها في حاجة إلى أحكام وإجراءات تواكب حاجاتها في جميع أشكالها وأطوارها، وأنها تجد في هذا الدين ما يلبي هذه الحاجات في كل حالة. وأنها حين ترتقي من طور إلى طور تجد في هذا الدين كفايتها كذلك بنفس النسبة؛ وتجد في شريعته ما يلبي حاجاتها الحاضرة، ثم يرتقي بها إلى تلبية حاجاتها المتطورة.. وأن هذه معجزة هذا الدين ومعجزة شريعته؛ وآية أنه من عند الله، وأنها من اختياره سبحانه.
على أننا نخدع كذلك مرة أخرى حين ننسى الضرورات التي يقع فيها الأفراد من البيئات التي تجاوزت هذه الأطوار؛ والتي يسعفهم فيها يسر هذه الشريعة وشمولها، ووسائل هذا الدين المعدة للعمل في كل بيئة وفي كل حالة. في البدو والحضر. في الصحراء والغابة. لأنه دين البشرية كلها في جميع أعصارها وأقطارها.. وتلك أيضًا إحدى معجزاته الكبرى.
إننا نخدع حين نتصور أننا- نحن البشر- أبصر بالخلق من رب الخلق.. فتردنا الوقائع إلى التواضع! وما أولانا أن نتذكر قبل أن تصدمنا الأحداث. وأن نعرف أدب البشر في حق خالق البشر.. أدب العبيد في حق رب العبيد.. لو كنا نتذكر ونعرف، ونثوب. اهـ.

.من فوائد الجصاص في الآيات السابقة:

قال رحمه الله:
بَابُ الشَّهَادَةِ عَلَى الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ:
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ}.
قَدْ اُخْتُلِفَ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ هَهُنَا، فَقَالَ قَائِلُونَ: «هِيَ الشَّهَادَةُ عَلَى الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ» وَأَجَازُوا بِهَا شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى وَصِيَّةِ الْمُسْلِمِ فِي السَّفَرِ.
وَرَوَى الشَّعْبِيُّ عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّ رَجُلًا مُسْلِمًا تُوفِيَ بِدُقُوقَا وَلَمْ يَجِدْ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ يُشْهِدُهُ عَلَى وَصِيتِهِ، فَأَشْهَدْ رَجُلَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَأَحْلَفَهُمَا أَبُو مُوسَى بَعْدَ الْعَصْرِ بِاَللَّهِ مَا خَانَا وَلَا كَذَبَا وَلَا بَدَّلَا وَلَا كَتَمَا وَلَا غَيَّرَا، وَإِنَّهَا لَوَصِيَّةُ الرَّجُلِ وَتِرْكَتِهِ؛ فَأَمْضَى أَبُو مُوسَى شَهَادَتَهُمَا وَقَالَ: هَذَا أَمْرٌ لَمْ يَكُنْ بَعْدَ الَّذِي كَانَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ آخَرُونَ: «مَعْنَى: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} حُضُورُ الْوَصِيَّيْنِ، مِنْ قَوْلِك شَهِدْته إذَا حَضَرْته».
وَقَالَ آخَرُونَ: «إنَّمَا الشَّهَادَةُ هُنَا أَيْمَانُ الْوَصِيَّةِ بِاَللَّهِ إذَا ارْتَابَ الْوَرَثَةُ بِهِمَا»، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ.
فَذَهَبَ أَبُو مُوسَى إلَى أَنَّهَا الشَّهَادَةُ عَلَى الْوَصِيَّةِ الَّتِي تَثْبُتُ بِهَا عِنْدَ الْحُكَّامِ، وَأَنَّ هَذَا حُكْمٌ ثَابِتٌ غَيْرُ مَنْسُوخٍ؛ وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ شُرَيْحٍ، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَالْأَوْزَاعِيُّ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدٍ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَسَعِيدٍ بْنِ جُبَيْرٍ وَابْنِ سِيرِينَ وَعُبَيْدَةَ وَشُرَيْحٍ وَالشَّعْبِيِّ: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ}: «مِنْ غَيْرِ مِلَّتِكُمْ».
وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَالزُّهْرِيِّ: «مِنْ غَيْرِ قَبِيلَتِكُمْ» فَأَمَّا تَأْوِيلُ مَنْ تَأَوَّلَهَا عَلَى الْيَمِينِ دُونَ الشَّهَادَةِ الَّتِي تُقَامُ عِنْدَ الْحُكَّامِ، فَقَوْلٌ مَرْغُوبٌ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَتْ الْيَمِينُ قَدْ تُسَمَّى شَهَادَةٌ فِي نَحْوِ قَوْله تَعَالَى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ} لِأَنَّ الشَّهَادَةَ إذَا أُطْلِقَتْ فَهِيَ الشَّهَادَةُ الْمُتَعَارِفَةُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا} {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} كُلُّ ذَلِكَ قَدْ عُقِلَ بِهِ الشَّهَادَاتُ عَلَى الْحُقُوقِ لَا الْأَيْمَانُ؛ وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} الْمَفْهُومُ فِيهِ الشَّهَادَةُ الْمُتَعَارَفَةُ.